محنة التراث القبطي: “دعوة للإنتقال من عصر النقل لعصر العقل”

أتذكر حين أتى احدهم إليَّ ليسألني حول قصة ما مذكورة في السنكسار، قال لي: هل أنت واثق أنها حدثت حقا؟ اعني أن الأمر لا يبدو منطقياً ولا حتى من الناحية التاريخية بل يناقض اشياء كثيرة.
أجبته أن قداسة البابا قد أشار ذات مرة لوجود أخطاء في السنسكار، وطلبت منه وقتاً لأبحث الأمر وأعطيه إجابة. أذكر أنني وقتها لم أنجح في الوصول لأي إجابة إذ لم أجد كتاباً واحداً يشير للمصدر الأصلي للقصة فكل الكتب كانت قد نقلت من بعضها البعض.
وهذه هي محنة التراث القبطي، فقد ظللنا قروناً ننقل تراثنا بكل ما فيه من غث وثمين دون أن نتوقف لحظة أمامه لندرسه ونحلله وننقيه مما شابه عبر العصور أو حتى نحاول أن نرده لأصوله الأولى ولو قررت يوماً أن تتبع أصل أحد الألحان او ربما قصة من قصص التراث القبطي أو حتى أصل أحد الأصوام ستفاجأ بصعوبات جمة لعدم وجود أي مراجع أو كتابات موثقة لهذا التراث.
إن التراث القبطي هو واحد من أغنى وأقوى وأندر التراث الديني والإنساني في العالم، وعلينا نحن أبناء هذا التراث أن ندعمه ونحفظه بالصورة التي تليق به ككنزنا الذهبي الفريد. نحن امام أمرين لايمكن لواحد منهما أن يكون دون الآخر،
الأمر الأول هو تنقية هذا التراث من الشوائب التي لحقت به عبر العصور خاصة من التأثير الأسلامي والرومي. الأمر الثاني هو تأصيله وتوثيقة.
ربما لأننا أدمنا تقديس الأشياء وإعتبارها تابوهات لايجب مسها، لذا لا نقبل فكرة النقد والتنقية، التراث أصبح لنا مقدساً أياً ماكان فيه.
لكن التقدم وجوهر الإبداع يبدأ من النقد الذاتي حيث نعرف أين أخطانا وأين أصبنا لنكمل الطريق أحراراً لامحملين بتراث يفقد المصداقية والتأصيل بل حاملين تراثاُ نقياً تضرب جذوره في ماضينا السحيق نجمله بكل فخر وأعتزاز.
لكن بالرغم من هذا تعلو بعض الأصوات التي تقول أن تأصيل التراث القبطي قد يهدد التراث ذاته إذ قد نجد أنفسنا أمام ممارسات أو أفكار إعتقدناها متجذرة في تراثنا وهي ليست كذلك وهذا الإكتشاف سيدفعنا لمحنة أعمق.
الحقيقة هي: ان ما ليس له جذور في التراث القبطي هو بالتأكيد دخيل أي أنه لا يعتبر جزء من تراثنا الحقيقي. بالإضافة أن الهدف الأساسي من دعوة تأصيل التراث ليس إثبات أو نفي معتقدات وممارسات معينة، فالتأصيل المقصود به القدرة على تتبع عقيدة أو ممارسة ما حتى نصل إلي جذورها في أقدم زمن ممكن وبالتالي تكون مبنية على أساس سليم مما يمنحنا القدرة أن نضع لها دفاعاً قوياً تجاه المشككين.
كانت نتيجة غياب هذا النوع من الدراسات التي توثق للتراث أننا أصبحنا نعاني من عدم قدرتنا على تقديم الردود المناسية والعلمية لأسئلة الجيل الحالي وفقدنا الرابط المرئي بين التراث الأبائي والفكر المعاصر وبالتالي فقدنا التمييز بين ماهو دخيل وماهو تراث قبطي أصيل.
من هنا
دعوتي لإنقاذ التراث القبطي من محنته… هي دعوة للإنتقال من عصر النقل لعصر العقل

Comments

  1. شكرا. مجهود رائع مفيد اتمنى واصلى ان يقراه كل كاهن واسقف

    ReplyDelete

Post a Comment